Full Start

Saturday, February 24, 2007

ملاحظات على قارعة الزحام

1- لها عدوى!

بينما كنت خارجا من مبنى الكلية وأنا أسرع بخطى واسعة ومشي حثيث إذ سقط قلمي من أسلاك الدفتر الذي أعلقه فيه! كنت قد طفت للتو أحد الطلاب ببضع خطوات في سباق غير معلن نحو مبنى الكافتيريا, وما كنت لأدع هذا الحادث يعيقني عن الوصول أولا. بسرعة لاعب جمباز ثنيت ركبتيّ وأنا أدور للوراء ماداً ذراعي فالتقطت القلم وأكملت دورتي للأمام جاعلا من ثني الركبة عامل قفز... فأكملت السير وأنا لا أزال في المقدمة. لكن ما إن تقدمت خطوة حتى وقع آيبود ذلك الطالب مباشرة! سواء كنت أحمل قلما أو دفترا أو آلة حاسبة, فأنا متعود على الأشياء تسقط من يدي, لذلك لم أتفاجأ بسقوط قلمي. لكنها المرة الأولى التي يسقط فيها شيء من شخص مباشرة بعد سقوط شيء من عندي.

بينما كنت أمشي باقي المشوار, كنت أتساءل عن الجاذبية: هل لها عدوى؟ هل تساقط الأشياء شيء معدي؟ هل هي ظاهرة تنتشر بين الناس بسرعة... كالبسمة تراها في طريقك للدراسة, فتبتسم أنت قبل دخول الصف, فيبتسم طالب آخر, ويبتسم المدرس, وهكذا تنتشر البسمة في الصف؟ أو مثل الضحكة المجنونة تسمعها عند خروجك من اختبار فتضخ في رئتيك حب الحياة لباقي اليوم, وتنقل أنت تلك المحبة لغيرك؟ أو مثل التحية الصادقة يلقيها عليك صديق فتفلق قناع الملل عن وجهك وتمنحك فرصة الابستام إلى الناس وإلقاء التحية إليهم؟ هل تساقط الأشياء هكــذا... كالبســمة.. كالضحـكة.. كالتحيــة؟ هل هي كذلك معدية, تنشر شباك عنكبوت من المودة والبهجة, لكن بين الأشياء بدل الناس؟ سواءً كانت أو لم تكن, فلنحاول أن نكون نحن جزء من شبكة المودة التي بين الناس بابتسامتنا وضحكتنا وتحيتنا... ليس مثل "
الهامــور" المسكين!

2- "الهامــــــــــور" المسكيــن!

هذا الهامـــور ضخم. ليس من هوامير البحر, ولا من هوامير الفلوس, لكن من هوامير الـ... دراسة! لا أدري لماذا أسميناه الهامور, ربما بسبب شحوبه كهامور على الصحن ينظر إلى أفواه الجياع! "الهامور" هكذا دائما, سلبي... كل شيء لا يعجبه, كل اقتراح لا يرضيه, كل خيال لا يلائمه, ولو أن يقضي إجازة في سويسرا! قابلته يمشي بين مبنيين في الكلية والشمس تلفح وجه الدنيا. ناديته "صباح الشوي يالهامور" لكنه طافني بضع خطوات قبل أن يعي ما حدث فيلتفت للوراء "هلا!" كان يلبس فانيلة خضراء بهيجة على جنبها الأيمن خطين عريضين من الأزرق الفاتح, كأنهما الغيث يسقي الأرض أو الشلال يناجي وديانها. لكن كما أن الطبيعة لا تنعكس بهاءً على وجهه فإن بهجة الفانيلة بالتأكيد لم تنعكس أيضا. كان وجهه متلبدا كأنما غيوم من التوتر والإرهاق أمطرت عليه كامل القرن المنصرم! كان يمشي أبطأ من باقي الطلاب وعينيه تنظران للأسفل.. كأنما يراقب حذاءه أو يعد خطواته. ربما كان يفكر في بحث التخرج الذي يجب أن ينتهي منه قريبا, أو كان في طريقه لمادة الكيمياء الحيوية... أراهن أن جميع طلاب تلك المادة يفكرون مرتين كل خطوة واحدة في الفرار من هذا البؤس المحيق بهم! أو ربما كان يفكر في زيارة صديقه الذي يدرس في بيروت في أقرب فرصة... أو ربما كان قد تعب ومل من هذا الروتين اليومي المسمى "مشي"! ربما كان يريد أن يأتي إلى الصف على متن منطاد يصنعه من بقايا أكياس البخاري الفارغة التي تكدست في غرفته, أو يصنع من فواتير جواله حبلا يتأرجح به كطرازان ويدخل من نافذة القاعة, أو يأتي في قارب مصنوع من دفاتر أعوام الدراسة الماضية, يجعل تحته أربع عجلات دفع رباعي ويتخذ من مزازات متصلة من عصير السانتوب مجاديفا له!

هل المشي حقا شيء ملل وروتيني جدا إلى هذا الحد؟ ماذا لو كان المشي جزء من واجبات الدراسة أو مهام الوظيفة؟ إذن لاحتج الناس على ذلك وأصروا على الجلوس! لكن البعض يجد في المشي فرصة للتفكر والتأمل واستنشاق الحياة وهؤلاء مثل باقي الناس يمرون بهموم وخواطر مثل صاحبنا الهامور لكنهم على عكسه مبتهجون. هؤلاء الناس منهم من يعمل في أكثر الوظائف روتينية, لكن يبقى متوهجا بالحياة سعيدا بيومه مبتسما لحظه.. مثل سائق باص التقيته ذات مرة.

3- حُــــــــب الحيــــــــــاة!

لا أعرف وظائف كثيرة أكثر روتينية ومللا وإجهاداً من سياقة الباصات, خاصة اذا كان السائق ملزما بطريق محدد لا يحيد عنه. واذا كان يمكن التجديد والإبداع في الكثير من الوظائف والمهن, فمن الصعب التجديد في سياقة باص. من ينضم الى هذه المهنة ينضم عادة, وتلقائيا, إلى جمعية المدخنين بشراهة. ورغم ضآلة راتبه, فهذه الجمعية تستهلك الكثير من مال السائق وصحته. لكنني التقيت شخصا مختلف: ركبت الباص مع أحد السائقين أكثر من مرة.. وأكثر من مرة كان الطريق نفسه والوقت نفسه. كان أطول مني قليلا, لكنه كان أكثر حيوية وبهجة من معظم الناس كثيرا! كانت البسمة لا تفارقه والسعادة الغامرة لا تولّي عنه. كأنما الشاعرالعبّاسي الذي قال "دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفسا إذا حكم القضاء" نظم تلك القصيدة عندما ركب الباص معه! مثل هذا الشخص نادر, مما جعلني في تفكير دائم. ساءلت نفسي كثيرا: كيف يمكن لموظف مهنة روتينية ومملة كهذه أن يكون متحمسا مشعاً بالبهجة ومتوهجاً بحب الحياة مثل ذلك السائق؟!

من الناس من يرى إلى الدنيا بعيون أرهقها اليأس ونال منها الجزع فينزوي عن الحياة وسعادة العيش, ومن الناس من يكسو هذه النظرة بغطاء ديني. أحدهم "لبس العباءة وتخلى عن الدنيا", فقال له الإمام علي عليه السلام "أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك" وقال لأخي ذلك الرجل "ما كنتَ تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا؟ وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج! وبلى, إن شئت بلغت بها الآخرة: تُقري فيها الضيف, وتصل فيها الرحم, وتطلع منها الحقوق مطالعها, فإذا أنت بلغت بها الآخرة"*.


الله سبحانه وتعالى خلقنا وبعث لنا نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدين السعادة في الدنيا والآخرة, فلنعش سعداء في جميع نواحي حياتنا وكل لحظات عمرنا.. فلنحب الحياة وإعمار الأرض ونفع الأهل والأصدقاء والمجتمع الإنساني بأي شيء... بالبسمة نبديها, بالضحكة ننشرها, بالتحية نلقيها... بالايجابية في تفاصيل حياتنا, بوهج الحياة في وظائفنا... بأن يكون الواحد فينا نفســــه.. بكل صدق, بكل سلام مع النفس والآخرين مهما كانت الظروف!
قال ابن الرومي:
ليس للمكثر المنغًّص عيشٌ...... إنما عيش عائش بهنـــــــــــــاء

* نهج البلاغة, ج 2, 207

إزعـــــــــــــــــــــــــاج!

هكذا كان الصوت في وقت بدا أنه أطول من حبل مشنقة في عين محكوم بالإعدام... إزعـــاج!
ضرس العقل في الجنب الأيسر السفلي كان يؤلمني مثل دالة ظا(س)... كلما انقطع الألم فجأة عاد يؤلمني بسرعة وحدّة... لكن هذه المرة هدأ وإذا مسامع أذني كلها هذا الإزعـــــــاج!
أتقلب ذات اليمين وذات الشمال, كفّاي تحتضنان أذنيّ, ثم أغطس رأسي تحت الوسادة... لكنه إزعــــــــاج!
كانت الساعة قد طافت الثانية صباحا وأنا لم أنم حتى الليلة الماضية... والليلة إزعـــــــــــــــــــــــاج!
كأنه غضب الرب: ريح عاتية تصفّر, مطر غزير ينهمر, ورعد دائم ينفجر... لكنه إزعـــــــاج!
تذكرت إعصار كاترينا, ساءلت نفسي عن أأمن الأماكن فاهتديت إلى الممر: لا أثاث لا زجاج... لكنه إزعـــــاج!
لم أتحرك من مكاني وظللت متشبثا بالوسادة والسرير. ثياب سميكة وجراب سميك تحت بطانية سميكة.. أأمن من ممر بارد ذو جدران سميكة!

تذكرت وأنا على السرير المرّة التي استضفت فيها أحد أصدقائي عندما سافر زميلي في الغرفة ذات إجازة. رن جرس الإنذار يوم سبت فقفز ضيفي من نومه وصوت الصفارة على الحائط قبالة غرفتي, والأبواب تزمجرلغضب الطلاب الجالسين من النوم قبل أوانهم. "اجلس من النوم.. إنذار حريــــــق!" صاح بي الصديق. "نعم؟ لا لا تخف, إنه مجرد إنذار... مجرد إزعــــــــــــــاج من طالب شقي, حدث هذا الاسبوع الماضي!" وظللت أحاول النوم ويحاول إقناعي بالخروج إلى أن توقف الإنذار.

ماذا حدث الاسبوع الذي سبق؟ كنت أستحم إذ دوّى صوت صفارة الإنذار. إزعـــــــاج.. والشامبو في رأسي. الحمام يقع بين أربع غرف, وأرضه من سيراميك. "الأبواب مغلقة" فكرت في نفسي, لذلك سيظل الدخان بعيدا إلى أن يطفئوا الحريق- إن كان هنالك حريق. السيراميك لا ينقل النار, وأنا لابس نعلي في "الشاور" والماء ينهمرعلي. ماذا عن الدخان؟ "إذا بدأ في التسرب أبلل فوطتي وألفها حول نفسي وأركض خارج الباب"! لكن الإزعــــاج توقف, وحمدت الله.

جلست من النوم بعد أن نمت أخيرا! مشيت إلى الصيدلية, على بعد 20 دقيقة من المشي في الأحياء الجميلة واذا الشرطة والعمّال يقطعون الطريق على السيارات. أسلاك متساقطة... سقوف منتشلة... فروع أشجار على السيارات, أعمدة إنارة أثرية صريعة على الطريق! كان إعصاراً... زوبعة (تورنيدو). الشرطة والحرس الوطني يحرسون الممتلكات الخاصة والعامة.. بضه مدرعات وهمرات بألوان الجيش. إذن لم يكن الازعاج مزاح طالب شقي هذه المرة!

من الواضح أنها ليست المرة الوحيدة التي اعتبرت الانذارات "إزعاج" واتخذت بالتالي قرارات خاطئة. إزعــــاج.. هي الكلمة ذاتها التي يصف بها الطلاب نصائح مدرسيهم بالمذاكرة, نصائح الأهل بالتفكير للمستقبل, نصائح الأم بعدم الاكثار من الحلويات... إزعاج! كثير من النصائح والإنذارات تبرز في مختلف مراحل حياتنا, وإذا لم نتصرف إزاءها بحكمة فنحن عمليا نعتبرها مجرد.. إزعــــاج! ماذا لو عصف الاعصار بالحي الذي أسكنه, أو شبت النار تلك المرتين؟ التصرف بحكمة أفضل من الانزعاج من النصيحة, فقد يأتي وقت لا "إزعــــاج" فيه أشد من الندامة, والأسوء أن يكون وقت لا يفيد فيه الندم!

درهم وقاية خير من قنطار علاج!