Full Start

Friday, May 04, 2007

رغبة طفل.. وقت المباراة

تغيرت بغداد عبر الزمن.. تغيرت المباني وسكانها, والمتاجر وملاكها, والشوارع وأسماءها, وجميع معالم الحياة فيها. لكن بسمة الحياة لا تزال تأتي على وجه النسمات.. لا تزال النسمات هي نفسها منذ بُنيت بغداد.. تسافرعلى جدائل النخيل وتعبرصفحات الفرات, تنعطف في الشوارع والأزقة, تقبل الجدران, وتعانق الإنسان. لتوها, عانقت النسمات طفلا - له ست سنوات من العمر- وأباه العائدين من صلاة الجمعة إلى المنزل.

في بيت انقطعت الكهرباء عن غرفه, فلا تكييف أو إنارة, يجلس الطفل أيمن في صالة مضاءة. أشعة الشمس تنسكب هنا, لكنها لا تدخل الصالة من بابها, ولا تحيي سكانها من نافذتها, بل عبر حفرة في السقف أنتجتها قذيفة. لم ينجُ من الحرب من أثاث المنزل شيء. أغلى ما في الصالة تلفاز كستنائي اللون قديم, صرف فيه أبو أيمن دم قلبه يوم استتب الأمن في بغداد بضعة أيام. رغم أن أبو أيمن شاهد عبر التلفاز مزيداً من دماء أخوته في الوطن تسيل في كافة أنحاء العراق, إلا أن التلفاز لا يزال أداة التسلية ومبعث البهجة الأهم لديه. جهاز الاستقبال (الأنتن) يقف شامخا صامدا, لكن نال منه التعب فمال نحو اليمين, كأنه يشير عمدا الى الصورة الكبرى على جدار الطين. هناك, يقف لاعبو كرة القدم في المنتخب العراقي رافعين شارة النصر وابتسامتهم العريضة تُغري بالأمل. اللاعب الثالث من اليمين يرفع العلم العراقي راكضا نحو رفاقه. على أرض المعلب, كتب مصمم الصورة "هذولا إحنا العراقيين..." وجعل جميع النقاط على هيئة كرات قدم.

على الأرض يجلس أيمن, يقلب نظره بين صحن الخبز والجبن و صحن البيض, وبين وجه أبيه والتلفاز. لا يخاف أيمن أنه أضاف بالبيض بقعة إلى ثوبه, فكذلك فعل أبوه, لكنه يخاف كلما صرخ أبوه في وجه التلفاز. لا يفهم الطفل كيف يشاهد أبوه المباراة مرة أخرى, وينفعل في الإعادة كما انفعل في المرة الأولى. لماذا يبقى يعنّف اللاعبين ويسب الحكم وقد فاز العراق ضد منتخب البلد الجار 2-0؟ والأهم, لماذا لا يخرج هو وأبوه من المنزل إلا نادرا؟ التساؤل والنقاش ممنوع... فيمهّد:

- بابا, لماذا طعم البيض الذي تطبخه غير طعم البيض الذي تطبخه أم فاطمة؟
- هي تطبخ كثيرا, وتضيف الطماطم والملح!
- ولماذا, بابا, لا تضيف الطماطم والملح؟
- ... الملح مضر بالصحة.

بعد صمتٍ, يعود أيمن إلى غرضه:
- بابا, لماذا لا تذهب الى مقهى الرافدين, حتى تشاهد المباراة مع أصحابك؟
- الوضع خطير.
- لكنك بالأمس ذهبت!
- أمس كانت المباراة!
- واليوم يعيدونها, فلماذا لا تذهب؟
- الإعادة لا تستحق المخاطرة.

سُدّت الأبواب, لن يذهب أبو أيمن للمقهى ويترك ابنه مع قريبتهم أم فاطمة. تقتضي الدبلوماسية من الطفل أن يصمت مجددا, لكن الصمت في نفسه هزيمة لطموحاته البريئة. يقتطع أيمن لنفسه قطعة خبز كبيرة يشتري خلال مضغها بعض الوقت. في المحاولة الأخيرة يشجع نفسه ويقول:
- بابا, أريد أن ألعب مع فاطمة وأخوها.
- لا.

الإجابات دائما قاطعة وقصيرة, لكنها وقت المباريات أقصر. لا يزيغ نظر أبو أيمن عن الشاشة حتى عندما يحتسي الشاي. للإنصاف, هو لا ينظر للشاي أبداً, حتى في أوقات رخائه. لعله لذلك لم يتساءل يوماً: لماذا شاي أهل العراق مغرق في السواد.. كأنه النفط؟ تُرى, هل ازداد سواده كلما أغرقتهم السنين بمآسيها؟
- لماذا لا أذهب؟
- اسمك أيمن.
- يعني ماذا؟
- الأسبوع الماضي ذبحوا علي لأنه شيعي. قبل ثلاث أيام غيرهم قتلوا عمر لأنه سني. وإذا سلم اسمك من الجماعتين فالأمريكان سيظنون أني أناصر الظواهري فيعاقبونني بقتلك, كما عاقبوني في أمك.
- لكنها لم تمت وهي تزور أم فاطمة. ألم تكن جالسة هنا, تحت حفرة السقف؟
- ولد, خلاص!

رجع الطفل, كعادته, إلى صمته. وتابع أبو أيمن انفعالاته.. هكذا يستنشق الأمل, عبر مباراة "فاز فيها شعب العراق على الإحباط, غلبوا فيها الانقسام, وجور الجيران, وقسوة الفقر." هكذا قال والده. "هذولا إحنا العراقيين... ننتصر على القهر."

لعل المقهى والملعب والبرلمان أماكن تتعدد فيها الأصوات وتظهر فيها بعض الديمقراطية. لكن في هذا المنزل, كما في معظم زوايا العراق, كمعظم إداراته الحكومية ودوائره العشائرية, ومعظم المنازل.. يسود الصمت ويرتفع صوت واحد. تموت كثير من تساؤلات الطفل وأحلامه, خاصة في المنزل, وإن صرخ أبوه في نهاية المباراة "عاش العراق! فاز العرق! عاش العراقيون!"

Saturday, February 24, 2007

ملاحظات على قارعة الزحام

1- لها عدوى!

بينما كنت خارجا من مبنى الكلية وأنا أسرع بخطى واسعة ومشي حثيث إذ سقط قلمي من أسلاك الدفتر الذي أعلقه فيه! كنت قد طفت للتو أحد الطلاب ببضع خطوات في سباق غير معلن نحو مبنى الكافتيريا, وما كنت لأدع هذا الحادث يعيقني عن الوصول أولا. بسرعة لاعب جمباز ثنيت ركبتيّ وأنا أدور للوراء ماداً ذراعي فالتقطت القلم وأكملت دورتي للأمام جاعلا من ثني الركبة عامل قفز... فأكملت السير وأنا لا أزال في المقدمة. لكن ما إن تقدمت خطوة حتى وقع آيبود ذلك الطالب مباشرة! سواء كنت أحمل قلما أو دفترا أو آلة حاسبة, فأنا متعود على الأشياء تسقط من يدي, لذلك لم أتفاجأ بسقوط قلمي. لكنها المرة الأولى التي يسقط فيها شيء من شخص مباشرة بعد سقوط شيء من عندي.

بينما كنت أمشي باقي المشوار, كنت أتساءل عن الجاذبية: هل لها عدوى؟ هل تساقط الأشياء شيء معدي؟ هل هي ظاهرة تنتشر بين الناس بسرعة... كالبسمة تراها في طريقك للدراسة, فتبتسم أنت قبل دخول الصف, فيبتسم طالب آخر, ويبتسم المدرس, وهكذا تنتشر البسمة في الصف؟ أو مثل الضحكة المجنونة تسمعها عند خروجك من اختبار فتضخ في رئتيك حب الحياة لباقي اليوم, وتنقل أنت تلك المحبة لغيرك؟ أو مثل التحية الصادقة يلقيها عليك صديق فتفلق قناع الملل عن وجهك وتمنحك فرصة الابستام إلى الناس وإلقاء التحية إليهم؟ هل تساقط الأشياء هكــذا... كالبســمة.. كالضحـكة.. كالتحيــة؟ هل هي كذلك معدية, تنشر شباك عنكبوت من المودة والبهجة, لكن بين الأشياء بدل الناس؟ سواءً كانت أو لم تكن, فلنحاول أن نكون نحن جزء من شبكة المودة التي بين الناس بابتسامتنا وضحكتنا وتحيتنا... ليس مثل "
الهامــور" المسكين!

2- "الهامــــــــــور" المسكيــن!

هذا الهامـــور ضخم. ليس من هوامير البحر, ولا من هوامير الفلوس, لكن من هوامير الـ... دراسة! لا أدري لماذا أسميناه الهامور, ربما بسبب شحوبه كهامور على الصحن ينظر إلى أفواه الجياع! "الهامور" هكذا دائما, سلبي... كل شيء لا يعجبه, كل اقتراح لا يرضيه, كل خيال لا يلائمه, ولو أن يقضي إجازة في سويسرا! قابلته يمشي بين مبنيين في الكلية والشمس تلفح وجه الدنيا. ناديته "صباح الشوي يالهامور" لكنه طافني بضع خطوات قبل أن يعي ما حدث فيلتفت للوراء "هلا!" كان يلبس فانيلة خضراء بهيجة على جنبها الأيمن خطين عريضين من الأزرق الفاتح, كأنهما الغيث يسقي الأرض أو الشلال يناجي وديانها. لكن كما أن الطبيعة لا تنعكس بهاءً على وجهه فإن بهجة الفانيلة بالتأكيد لم تنعكس أيضا. كان وجهه متلبدا كأنما غيوم من التوتر والإرهاق أمطرت عليه كامل القرن المنصرم! كان يمشي أبطأ من باقي الطلاب وعينيه تنظران للأسفل.. كأنما يراقب حذاءه أو يعد خطواته. ربما كان يفكر في بحث التخرج الذي يجب أن ينتهي منه قريبا, أو كان في طريقه لمادة الكيمياء الحيوية... أراهن أن جميع طلاب تلك المادة يفكرون مرتين كل خطوة واحدة في الفرار من هذا البؤس المحيق بهم! أو ربما كان يفكر في زيارة صديقه الذي يدرس في بيروت في أقرب فرصة... أو ربما كان قد تعب ومل من هذا الروتين اليومي المسمى "مشي"! ربما كان يريد أن يأتي إلى الصف على متن منطاد يصنعه من بقايا أكياس البخاري الفارغة التي تكدست في غرفته, أو يصنع من فواتير جواله حبلا يتأرجح به كطرازان ويدخل من نافذة القاعة, أو يأتي في قارب مصنوع من دفاتر أعوام الدراسة الماضية, يجعل تحته أربع عجلات دفع رباعي ويتخذ من مزازات متصلة من عصير السانتوب مجاديفا له!

هل المشي حقا شيء ملل وروتيني جدا إلى هذا الحد؟ ماذا لو كان المشي جزء من واجبات الدراسة أو مهام الوظيفة؟ إذن لاحتج الناس على ذلك وأصروا على الجلوس! لكن البعض يجد في المشي فرصة للتفكر والتأمل واستنشاق الحياة وهؤلاء مثل باقي الناس يمرون بهموم وخواطر مثل صاحبنا الهامور لكنهم على عكسه مبتهجون. هؤلاء الناس منهم من يعمل في أكثر الوظائف روتينية, لكن يبقى متوهجا بالحياة سعيدا بيومه مبتسما لحظه.. مثل سائق باص التقيته ذات مرة.

3- حُــــــــب الحيــــــــــاة!

لا أعرف وظائف كثيرة أكثر روتينية ومللا وإجهاداً من سياقة الباصات, خاصة اذا كان السائق ملزما بطريق محدد لا يحيد عنه. واذا كان يمكن التجديد والإبداع في الكثير من الوظائف والمهن, فمن الصعب التجديد في سياقة باص. من ينضم الى هذه المهنة ينضم عادة, وتلقائيا, إلى جمعية المدخنين بشراهة. ورغم ضآلة راتبه, فهذه الجمعية تستهلك الكثير من مال السائق وصحته. لكنني التقيت شخصا مختلف: ركبت الباص مع أحد السائقين أكثر من مرة.. وأكثر من مرة كان الطريق نفسه والوقت نفسه. كان أطول مني قليلا, لكنه كان أكثر حيوية وبهجة من معظم الناس كثيرا! كانت البسمة لا تفارقه والسعادة الغامرة لا تولّي عنه. كأنما الشاعرالعبّاسي الذي قال "دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفسا إذا حكم القضاء" نظم تلك القصيدة عندما ركب الباص معه! مثل هذا الشخص نادر, مما جعلني في تفكير دائم. ساءلت نفسي كثيرا: كيف يمكن لموظف مهنة روتينية ومملة كهذه أن يكون متحمسا مشعاً بالبهجة ومتوهجاً بحب الحياة مثل ذلك السائق؟!

من الناس من يرى إلى الدنيا بعيون أرهقها اليأس ونال منها الجزع فينزوي عن الحياة وسعادة العيش, ومن الناس من يكسو هذه النظرة بغطاء ديني. أحدهم "لبس العباءة وتخلى عن الدنيا", فقال له الإمام علي عليه السلام "أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك" وقال لأخي ذلك الرجل "ما كنتَ تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا؟ وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج! وبلى, إن شئت بلغت بها الآخرة: تُقري فيها الضيف, وتصل فيها الرحم, وتطلع منها الحقوق مطالعها, فإذا أنت بلغت بها الآخرة"*.


الله سبحانه وتعالى خلقنا وبعث لنا نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدين السعادة في الدنيا والآخرة, فلنعش سعداء في جميع نواحي حياتنا وكل لحظات عمرنا.. فلنحب الحياة وإعمار الأرض ونفع الأهل والأصدقاء والمجتمع الإنساني بأي شيء... بالبسمة نبديها, بالضحكة ننشرها, بالتحية نلقيها... بالايجابية في تفاصيل حياتنا, بوهج الحياة في وظائفنا... بأن يكون الواحد فينا نفســــه.. بكل صدق, بكل سلام مع النفس والآخرين مهما كانت الظروف!
قال ابن الرومي:
ليس للمكثر المنغًّص عيشٌ...... إنما عيش عائش بهنـــــــــــــاء

* نهج البلاغة, ج 2, 207

إزعـــــــــــــــــــــــــاج!

هكذا كان الصوت في وقت بدا أنه أطول من حبل مشنقة في عين محكوم بالإعدام... إزعـــاج!
ضرس العقل في الجنب الأيسر السفلي كان يؤلمني مثل دالة ظا(س)... كلما انقطع الألم فجأة عاد يؤلمني بسرعة وحدّة... لكن هذه المرة هدأ وإذا مسامع أذني كلها هذا الإزعـــــــاج!
أتقلب ذات اليمين وذات الشمال, كفّاي تحتضنان أذنيّ, ثم أغطس رأسي تحت الوسادة... لكنه إزعــــــــاج!
كانت الساعة قد طافت الثانية صباحا وأنا لم أنم حتى الليلة الماضية... والليلة إزعـــــــــــــــــــــــاج!
كأنه غضب الرب: ريح عاتية تصفّر, مطر غزير ينهمر, ورعد دائم ينفجر... لكنه إزعـــــــاج!
تذكرت إعصار كاترينا, ساءلت نفسي عن أأمن الأماكن فاهتديت إلى الممر: لا أثاث لا زجاج... لكنه إزعـــــاج!
لم أتحرك من مكاني وظللت متشبثا بالوسادة والسرير. ثياب سميكة وجراب سميك تحت بطانية سميكة.. أأمن من ممر بارد ذو جدران سميكة!

تذكرت وأنا على السرير المرّة التي استضفت فيها أحد أصدقائي عندما سافر زميلي في الغرفة ذات إجازة. رن جرس الإنذار يوم سبت فقفز ضيفي من نومه وصوت الصفارة على الحائط قبالة غرفتي, والأبواب تزمجرلغضب الطلاب الجالسين من النوم قبل أوانهم. "اجلس من النوم.. إنذار حريــــــق!" صاح بي الصديق. "نعم؟ لا لا تخف, إنه مجرد إنذار... مجرد إزعــــــــــــــاج من طالب شقي, حدث هذا الاسبوع الماضي!" وظللت أحاول النوم ويحاول إقناعي بالخروج إلى أن توقف الإنذار.

ماذا حدث الاسبوع الذي سبق؟ كنت أستحم إذ دوّى صوت صفارة الإنذار. إزعـــــــاج.. والشامبو في رأسي. الحمام يقع بين أربع غرف, وأرضه من سيراميك. "الأبواب مغلقة" فكرت في نفسي, لذلك سيظل الدخان بعيدا إلى أن يطفئوا الحريق- إن كان هنالك حريق. السيراميك لا ينقل النار, وأنا لابس نعلي في "الشاور" والماء ينهمرعلي. ماذا عن الدخان؟ "إذا بدأ في التسرب أبلل فوطتي وألفها حول نفسي وأركض خارج الباب"! لكن الإزعــــاج توقف, وحمدت الله.

جلست من النوم بعد أن نمت أخيرا! مشيت إلى الصيدلية, على بعد 20 دقيقة من المشي في الأحياء الجميلة واذا الشرطة والعمّال يقطعون الطريق على السيارات. أسلاك متساقطة... سقوف منتشلة... فروع أشجار على السيارات, أعمدة إنارة أثرية صريعة على الطريق! كان إعصاراً... زوبعة (تورنيدو). الشرطة والحرس الوطني يحرسون الممتلكات الخاصة والعامة.. بضه مدرعات وهمرات بألوان الجيش. إذن لم يكن الازعاج مزاح طالب شقي هذه المرة!

من الواضح أنها ليست المرة الوحيدة التي اعتبرت الانذارات "إزعاج" واتخذت بالتالي قرارات خاطئة. إزعــــاج.. هي الكلمة ذاتها التي يصف بها الطلاب نصائح مدرسيهم بالمذاكرة, نصائح الأهل بالتفكير للمستقبل, نصائح الأم بعدم الاكثار من الحلويات... إزعاج! كثير من النصائح والإنذارات تبرز في مختلف مراحل حياتنا, وإذا لم نتصرف إزاءها بحكمة فنحن عمليا نعتبرها مجرد.. إزعــــاج! ماذا لو عصف الاعصار بالحي الذي أسكنه, أو شبت النار تلك المرتين؟ التصرف بحكمة أفضل من الانزعاج من النصيحة, فقد يأتي وقت لا "إزعــــاج" فيه أشد من الندامة, والأسوء أن يكون وقت لا يفيد فيه الندم!

درهم وقاية خير من قنطار علاج!

Saturday, November 11, 2006

واحد فراري, واحد أسكريم

السيارة الحمراء تمضي مسرعة والطفل في المقعد الخلفي متوشح بعلم فريق الكرة الذي يشجعه وأباه. مطعم, مستشفى, منازل, مجموعة مطاعم, مجمع تجاري, منازل... تقطع جميعها المسافة بين أول النافذة الى آخرها في سرعة مذهلة, فيما الطفل يظل على مقعده ثابتا. كلها متحركة الا هو, الى أن تلوح وكالة الـ"فراري" فيقفز في محله فرحا. فجأة تتوسع عيناه الناعستان وتصيران مرآة للسيارات الشهيرة, وفجأة تتحول اناشيده الخاملة الى نشوة عارمة بحظه السعيد. كان يطلب والده كل خمسة دقائق "أبغى أسكريم!", لكن الآن حظه أسعد, ومطالبه أكبر:

-"بابا بابا, أبغى فراري! لا, أبغى اثنين, واحد أحمر وواحد أزرق!"

-"طيب خلاص, ويش رايك ناخذ لك أسكريمين بدل الفراريين؟"

-"أممم, خلاص, واحد فراري, وواحد أسكريم!"

كم بسيطة هي المقارنة بين فراري وآيسكريم في عيني طفل, وكم كان سهلا اقناعه بالتخلي عن احدى السيارتين! في هذه الأثناء, يتساءل الأب بالتأكيد كيف يقنع ولده بالتخلي عن السيارة الثانية فلا يكسر خاطره برفض طلبه. لكنه بالتأكيد أيضا سعيد أن طفله لا يسأله بدلا عن ذلك الأسئلة البسيطة ذات الأجوبة المعقدة:

- "بابا, ليش القمر يصغر ويكبر؟"

- "بابا, وين تروح الشمس؟"

- "بابا, من وين جا البيبي الجديد؟"

- ... وما يتبع هذه الأسئلة من أخوات أصعب تتلوها:

- "ليش ما نطلّع بيبي ثاني من بطنها؟ أنا أبغى البيبي بنت! ما أحب لون الشعر بنّي, أبغاه أسود!"

أحيانا, أتمنى لو كان التحول الاجتماعي والثقافي, وتغير مطالب "المجتمع" من أفراده لدينا مثل تحول مطالب الطفل من سيارتي فراري الى سيارة واحدة وأسكريم! لماذا ننتظر عقودا وعقود, ونكتب ونكرر وننصح ونعود بالنصيحة الى أن يقتنع الناس بوقف التفاخر بالمظاهر والتنفس بزيف المادة, او الى أن يوقف الناس العادات الاستهلاكية المتصاعدة الكلفة للأعراس, أو الى أن يتوسع هامش الحريات الفرديّة في مجتمع جمعيّ التفكير, أو الى أن يفكر الناس بأنفسهم بدل الانسياق وراء الدعوات السياسية التي تستند الى العاطفة لتهدم لكن لا تفكر في البناء, أو الى أن ينتهي الارهاب ويخف الارهاب الفكري, أو الى أن تسود لغة المحبة بدل تنامي ظواهر العنف, أو الى أن يتكافل الناس فيما بينهم بصورة أجدى لمكافحة الفقر, او الى أن يجتمع كل المحبين لشأن ما فيكوّنون له ناديا أو مؤسسة, او الى أن تشيع العفة في وجه الحالات المخيفة من الانحلال الاخلاقي والاختطاف والاغتصاب و و ... لو أنهم يقتنعون في السرعة اللي يقتنع بها طفل بالتخلي عن سيارة فراري لصالح أسكريم!

لكن كما التغيير الشخصي, فكذلك التغيير الاجتماعي يتطلب ادراكا أكيدا و قرارا واعيا, على الأقل من ثلة تأخذ على عاتقها مسؤولية التغيير. تلك الظواهر التي أتمنى لها الزوال ما انتشرت بين ليلة وضحاها, بل كانت نتاج تغيير ثقافي بطيء ومستمر الى أن شمل رقعة واسعة من نسيجنا الاجتماعي. وبالتأكيد, فالذين نتوقع منهم التغير سيتوقعون هم أيضا من غيرهم التغير في صراع للافكار والارادات. ستبرز, مثلا, بين الشباب أسئلة صعبة يواجهون بها المجتمع... تذكرني بأسئلة الطفل: كلها تبدو بسيطة, لكن الاجابة صعبة. وما يزيد التغيير الاجتماعي صعوبة تشابك كل الظواهر مع بعضها في شكل قد يحجب الرؤية أو يضفي غموضا على الحلول.

والتغيير ليس سهلا على الاطلاق, فحتى الطفل نفسه يكتشف بعد حين فن التفاوض والمقايضة! فكلما أراد أسكريما" أو قطعة حلوى طلب أباه "أبغى فراري!" كذلك, اذا طالب المجتمع شبابه بوقف بعض الظواهر كالعنف و العلاقات بين الفتيان والفتيات دون أن يكونوا مخطوبين, لن يستجيبوا للنصح ويخففوا تمردهم على السائد الا اذا اعطوا هامشا أكبر من الحرية الفردية وحق الاختلاف في الرأي. لكن من يستطيع "منح" هذا الحق والمجتمع كله مختبئ وراء ألوان محدودة من الطيف الفكري والاجتماعي, وكل الناس تفعل "ما يفعله الناس", ويقولون "ما يقوله الناس"...

وددت لو أن التغيير الاجتماعي سريع, كتحول مطالب الطفل من سيارتي فراري الى سيارة واحدة وأسكريم! ووددت أن المال والمادة بين الناس كما هي في عيني طفل, لا فرق كبير بين فراري وآيسكريم! لكن هذا الطفل سيكبر, ويعرف أن الحياة لا تنال الا بالكدح, وان المجتمع قد ينقسم بحدة الى طبقات اقتصادية, وأن زوال الفقر حلم لدى البعض يسعون الى تحقيقه, وحقيقة لا مفر منها لدى آخرين لا يهتمون الا بحالهم.

فمن ينتج التغيير؟ تقول مارغريت ميد "لا تشك أبدا بأن مجموعة صغيرة من المواطنين الملتزمين يمكن أن تغير العالم. بالتأكيد, انه الشيء الوحيد الذي حصل على الاطلاق". لذلك, ودّي أن أكوّن مجموعة شبابية صغيرة تهتم بوطنها وتواجه مشاكله, وأسميها "واحد فراري, واحد أسكريم"!!

"ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"

صدق الله العلي العظيم

Monday, September 25, 2006

رمضان يعيدنا الى الحرم المكي بقدسيته ومهابته. أرجع لكتاباتي في الحرم من العام الماضي...
كتابات في الحرم -6

* الاحتياجات الخاصة

تجتمع وسائل الراحة اللازمة لذوي الاحتياجات الخاصة من المعاقين والعاجزين عن المشي لدى جميع المرافق المدنية والدينية والسياحية في كثير من الدول, وتغيب عن مرافقنا.

هي في دوائر الدولة ومؤسساتها, كما وفي الفنادق والمتاحف والأسواق والكنائس, بل وفي وسائل النقل.

تخلو الكثير من مساجدنا من المماشي الخاصة بالكراسي المتحركة.

لكنها موجودة, على الأقل, عند عتبات المسجد الحرام, وفي السعي, بل وفي الطواف.

لا يوجد مكان مخصوص لطوافهم في الطابق الأول, لكنه موجود في الثاني على مرأى من الصحن.

المسار باتساع كرسي متحرك مع بعض الفسحة,

وتلزم الدورة الكاملة على أطرافه 10 دقائق بمشية معتدلة السرعة.

لكن الكثير من أجزاء المسار لا تسمح للكتف بمحاذاة الكعبة, فيكون الاشكال الشرعي عند فقهاء الشيعة.


في جامعات الغرب, يحصل لأصحاب المستلزمات الصحية الخاصة الكثير من التيسير,

ويحق لأحدهم أن يختبر لوحده –اٍن شاء- مثلا.

فهل في الأحكام الفقهية لمراجعنا العظام في الحج والعمرة أي تيسير لذوي الاعاقة أو المستلزمات الصحية الخاصة؟

هل يجوز لهم أن يطوفوا في الطابق الثاني؟

Saturday, September 23, 2006

رمضــــــــــــان كريـــــــــم

يا راعي الهباتشي!


كان لي ذلك الطعام الياباني (الهباتشي) أفضل مقدمة نفسية لدخول شهر رمضان! قاربت الشمس على الغروب, فقررت وصاحبي أن نمشي الى محطة الباص. لكن لأن الباص لم يكن هناك لحظة وصولنا, قررنا الذهاب الى المطعم مشيا... 3 أميال. وصلت وبطني أرق من رغيف خبز ولساني أيبس من تين مجفف... وصلت وكل حواسي تنتظر الطعام. دخلت المطعم واذا بالزينة تأخذ نظري, والرائحة تستحث أنفاسي, والتكييف يرخي أعصابي... وجلسنا الى طاولة الهباتشي.

كانت الطاولة مرتفعة الى مستوى الصدر, مصنوعة من الرخام جميلة, يحتل معظم وسطها قطعة "فرن" معدنية أنيقة, تحيط بها عشرة كراسِ خشبية لامعة. وقف يطبخ في المنتصف رجل ياباني بقطع معدنية تتطاير في يده كأنه بهلوان يداور الكرات والصحون. حتى نصف البصلة فصل دوائرها وبنى بها ما يشبه مئذنة سامراء. عبأها ببعض أنواع الزيت وقرّب منها الولاعة, فاذا اللهب يكاد يطاول السقف. وبمثل هذه المهارة والاتقان طبخ الرز والخضار والسمك والربيان و....

بينما كنت أكتب هذه الخاطرة في عقلي, والغرق في التفكير بادٍ على وجهي ,وأنا أستلذ كل لقمة من طعامي, سألني صاحبي

- "تبي تقول شي؟"

- – "ايه, "ان الله يحب اذا عمل أحدكم عملا.... "

- – "أن يتقنه!"

- –"بالضبط!"

- - "يعني...؟"

- - "هذي بداية رمضان.. على كل واحد فينا أي يتقن كل أعماله في نفسه ومحيطه ودينه ووظيفته.. وكل شؤونه."

- - "اوووه, وأنا أقول اش فيه رضا قالب دجّة يمدح البنات بهالكلمات الخطيـــــرة!"

- - "والله أنك سعـــــــودي!!!!"

كان المطعم يحاكي الاتقان بزينته اليابانية الضافية, والقطع التراثية البديعة, والموقع المناسب على أحد أهم شوارع المدينة, والعقل التجاري الذي يديره. وكان طباخوه يحاكون الاتقان بحركاتهم في طبخ الـ"هباتشي", في ابراز تراثهم, في طعم أطباقهم, وفي روحهم المرحة.

يا راعي الهباتشي, لو تعلمنا الاتقان في حياتنا.. في وظائفنا, في أعمالنا, في علاقاتنا, في صلاتنا وصومنا وجهاد أنفسنا الأمارة بالسوء!

يا راعي الهباتشي, لو تعلمنا الاتقان في ابراز تراثنا, والاهتمام بتقاليدنا, وصنع طعامنا!

يا راعي الهباتشي, لو تعلمنا كيف نخدم الناس كما تخدمهم ببسمة صافية وأخلاق حميدة!

يا راعي الهباتشي, لو تعلمنا الاتقان في تنظيم أوقاتنا, كما تنظم الرز والخضروات والسمك والربيان والقائمة الطويلة من الأكل على القطعة المعدنية بين يديك!

يا راعي الهباتشي, لو تعلمنا ان الاتقان في العمل, أي عمل, أفضل من الرضا بالبطالة!

يا راعي الهباتشي, لو تعلمنا ان التجارة لا تنحصر في البوفية والبقالة والحلاق!

يا راعي الهباتشي... لو تعملني كيف آكل وما أفكر في غير الذي بين يدي!!

بين أداء واجبات رمضان ومستحباته, بين أداء واجبات الجامعة واختباراتها, بين مستلزمات الأنشطة الطلابية وفعالياتها, بين المركز الاسلامي والمشاركة في أنشطته.. ولو بالحضور, وبين التفكر في حالي والمراجعة الفكرية والنفسية والاجتماعية والسلوكية, وبين اتخاذ القرارات بعد التأمل والتفكر... بين كل هذا... يبرز لي طابخ الهباتشي متفننا متقنا رغم كثرة ما بين يديه وقلة الوقت لديه عند طاولتنا. هكذا رمضان! يبدأ طويلا, ثم ينتهي كلمح البصر! وبعد الأكل اللذيذ المشبع, أتذكر كيف دخلت جائعا, كيف صمت جائعا, وكيف يظل الملايين في العالم –بل وفي وطننا- جوعى!

بعد الخدمة الرائعة في المطعم الأروع, أجد أن أهم الأعمال قضاء حوائج الناس. في خطبته في الجمعة الأخيرة من شهر شعبان, قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:

"واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم"

رمضان كريم... مجددا!

Thursday, May 11, 2006

الضحية

مر اعصار كاترينا بمدينة نيو أورلينز, فلم تعد كما كانت. خمس ساعات من قوة الطبيعة صنعت دمارا لا يحسّن في خمس سنين. لكن روح المدينة لا زالت حية, عشاقها لا يزالون ملتزمين باعادة بنائها, والطلاب في جامعاتها ملتزمون بالمساهمة في ذلك.

كلما أردت أن أكتب عن هذه المدينة التي أعشق... أتراجع. أفكر...ماذا أكتب؟ أكتب عن تأريخ المدينة المتميز, عن روحها الحرّة الفاتنة, عن مبانيها, عن ناسها. أكتب عن أكلها, عن شربها, عن مقاهيها, عن مطاعمها, عن موسيقاها, عن أشجارها, وعن جامعاتها. أفكر في الكتابة عن "الحي الفرنسي", عن "حي البستان", عن ميدان جفرسون, عن كنيسة سانت لويس, وعن المقابر الفريدة في أنحاء المدينة؟ أم أكتب عن نهر المسيسيبي الذي يخترقها, عن بحيرة بونتشارترين وجسرها , وعن مينائ المدينة, وعن مستنقعاتها؟ أم هل أترك ذلك كله وأتحدث عن لويزيانا... ولاية الصاص!

واذا كتبت عن شيء واحد فقط, كالحي (الربع) الفرنسي, فكيف أبدأ وكيف أنتهي؟ أكتب عن السوق الفرنسي, عن دكاكين التحف والآنتيك, وعن الكنيسة؟ أكتب عن مطعم آلباين وعازف الجاز يتوسط فناءه, أم عن الروبيان المطبوخ بطريقة نيوأورلينز والصاص المصنّع في قراها؟ أكتب عن أشهر المقاهي (كافي دو موند) و" البنييه" و"الكافيه أو ليه", أم عن شارع "فرنتشمن" و "ماجازين" ومقاهيه؟

هل أشرح أولا الطبيعة الغير طبيعية للمدينة؟ أم أشرع سريعا في نثر ذكرياتي على صفحات الفرح والمرح؟ لكن, هل يفهم أحد اذا زاوجت الحديث بين الروح المجنونة الحرة المحلقة للمدينة, وبين أنشطة الخدمة الاجتماعية المنتشرة بأضعاف عدد عازفي الجاز في المدينة!

أتراجع عن كل ذلك, فلا أحد يفهم معنى نيوأورلينز الا من زارها, ولا يعاين تميزها الا من سار فيها, ولا يتقمص روحها الا من فتح روحه عليها. آه, لو كانت الدموع تكتب أسطرا, لكانت هذه الأسطر أبلغ ما كتبت. لأنني أفكر في الكتابة... وأعجز! كيف أشرح معنى الحب تجاه مدينة وقعت ضحية كل شيء!

قبل اعصار كاترينا, لم تكن مدينة نيوأورلينز وولاية لويزيانا على أفضل حال. فالولاية تنافس على المنصب الأخير من بين جميع ولايات أمريكا في جميع الحقول: انتشار الفقر, استشراء الفساد الاداري, سوء النظام التعليمي, معدلات الجريمة, وجود العنصرية العرقية... ضمن قائمة طويلة لا تنتهي. رغم ذلك, فعشق نيو أورلينز ظل يسري في دماء كل سكانها.

ثم جاءت كاترينا ووقعت المدينة ضحية الطبيعة, ضحية الاعلام, ضحية الادارة الفدرالية الفاشلة. ذهبت المدينة ضحية العنصرية, ضحية الفقر, وضحية الشامتين! اضطرت جميع جامعات المدينة الى قطع معظم برامج الهندسة فيها. وها هم أصدقائي يضطرون للنزوح الى مدن وجامعات أخرى.

آخر الضحايا كان زميل الشقة والغربة... علي "الفضائي". تشردنا سوية بسبب اعصار كاترينا, ولجأنا الى مدينة هيوستن. ثم ما لبثت الأخت ريتا أن جاءت تحيينا, فهربنا منها الى ليتل روك, آركنساس. الا أن تورنيدو ظريف أحب أن يلاحقنا هناك. ثم رجعنا. عدنا. وفرحنا. نظفنا شقتنا والكهرباء مقطوعة عنها. وما ان حلت أول اجازة نهاية الاسبوع (ويكند) حتى خرجنا ضمن 3000 طالب من طلاب المدينة في اكبر حدث خدمة اجتماعية. الطلاب نظفوا شوارع, صبغوا بيوت, هيؤوا مدارس, زينوا حدائق, وساعدوا مرضى لمدة 6 ساعات. ولا يزال طلاب المدينة يعملون. ولا يزال الطلاب من سائر أنحاء أمريكا يصلون الى المدينة ويساهمون في اعادة بنائها بشكل أو بآخر.

ذهبت 3 كراسي ضحية وزن علي وطريقته المضحكة في الجلوس. سافر علي, وليس له أن يعود طالبا الى المدينة, كغيره من مئات طلاب الهندسة الذين قطعت برامجهم. وقع الكثيرون ضحية كاترينا. كان آخرهم علي.

رفيق الفرح والمرح,و البلاهة والنباهة, و الجنون وانواع الفنون... وداعا"!

Thursday, May 04, 2006

التميز الأكاديمي... في مواقف السيارات!

تفكيرنا يتنوع ويتعدد بحسب تأثير بيئتنا الاجتماعية, دراستنا الأكاديمية, واهمتماماتنا الخارجية ضمن سلسلة طويلة من المؤثرات التي نسيطر على بعضها ونستسلم لبعضها الآخر. ونتيجة لذلك, فان نظرتنا الى الحياة من حولنا تختلف من شخص لأخر. فالمهندس المعماري قطعا لا ينظر الى الدنيا بمثل العين التي ينظر بها مدير التسويق اليها. لو سافر الاثنان ونظرا الى مبنى شاهق, جميل، أنيق, عليه اعلان ضخم لزين الدين زيدان يركل الكرة... ترى... من سيهتم أكثر بتصميم المبنى وهندسته, ومن سينجذب أكثر الى الأعلان وأثره؟ من سيفكر في تكلفة البناء وموارد التصميم, ومن سيخمن تكلفة الاعلان وعدد ناظريه؟

أعتذر أن أبطال المثال ذكور, لأن الاعلان لو كان لتسويق حقيبة نسائية, وكانت الصديقتان مهندسة معمارية والأخرى مسوقة اعلانات, لكان المثال أطول... فهنّ سينظرن أولا الى السيدة حاملة الشنطة يعاينّ صورتها ويدققن في مكياجها وموديل زينتها, ثم سيختلفن في التفكير عن هيئة المبنى أو تسويق الاعلان. لكن كتعويض, فالمثال الثاني بطلته فتاة.

كل منا يجد أن "الدنيا... غير!" ولأن أختي تدرس طب الأسنان, فنظرتها لمواقف السيارات غير نظرة أخي المتابع الدقيق لأنواعها. فأخي يرصد أولا أحب السيارات اليه, ألوانها, فئاتها, وتكلفتها. ثم يجول ببصره باحثا عن أسرع السيارات الموجودة, أكثرها فخامة, وأقلها انتشارا في المدينة. أما أختي, فهي تنظر الى صفوف السيارات أربعة أربعة... اللثتين الفوقية والتحتية, وصفوف الأسنان الفوقية والتحتية. ثم تعاين مناطق الخلل, حيث المواقف خالية, و تحدد نوع الفجوات, التقويم اللازم, وأفضل طرق الاصلاح والمعالجة.

... ويقولون أن تعليم الفتيات قاصر في السعودية عن غيره من البلدان التي تركز على الدراسة داخل الفصل وخارجه! لكن المنصف يلحظ أن فتياتنا اللاتي لا ينشغلن بشيء في الدنيا غير العلم (والموضة) هن أكثر الفتيات دراسة داخل الفصل وخارجه. ماذا تفعل البنت في السعودية اذا لم تدرس؟ لا هي تسوق السيارة فتضيع وقتها في الزحام, لا هي تتوظف بشهادة علوم سياسية أو صحافة فتنشغل عن دراسة الكتب المنهجية بالمتعلقات اليومية بهذين التخصصين, لا هي تستطيع أن تكتب قصة أو رواية من واقع الحياة... والا اتهمت بالفسق والفجور (أو على الأقل بفضح العائلة اذا استخدمت اسمها الحقيقي), ولا هي تستطيع المشاركة بفعالية في اللجان الأهلية. بعض اللجان الأهلية تهتم بمكافحة الفقر, أخرى بالفنون التشكيلية والمسرحية, وغيرها بالأنشطة الطلابية الأكاديمية والخدمية... ومشاركة النساء في هذه الفعاليات شديدة العسر وضيقة الحدود. طالبات طب الأسنان في العالم كله يستطعن اختيارا, وبدعم من الأهل والمجتمع, أن يضعن وقتهن بعيدا عن العلم, الا الطالبة السعودية. من يا ترى, غير الطالبات السعوديات, يستطعن الاستذكار والدراسة بالنظر الى مواقف السيارات... و من غير مقعد السائق؟

هنا في السعودية اذا لم تدرس البنت أو تشغل نفسها بالقراءة الخارجية, يخرج عقلها للتمشي وشراء ورق العنب... ثم لا يعود! لأنه لو عاد, ما استطاع أن يطبق شيئا غير أكل كتب الدراسة!

هنا التميز الأكاديمي الذي تسعى اليه كل فتياتنا يتجلى... بكل صدق, بكل اخلاص, بكل اهتمام, بكل جدية, وبكل نشاط... في مواقف السيارات!

تحية لأخواتنا المتفوقات في الدراسة, المتميزات في المواهب, المتجددات في الأفكار, النهمات في القراءة. عقولكن تتحرك... رغم الحصار!


“Never doubt that a small group of thoughtful, committed citizens can change the world;
indeed, it’s the only thing that ever has.” -Margaret Mead