Full Start

Saturday, November 11, 2006

واحد فراري, واحد أسكريم

السيارة الحمراء تمضي مسرعة والطفل في المقعد الخلفي متوشح بعلم فريق الكرة الذي يشجعه وأباه. مطعم, مستشفى, منازل, مجموعة مطاعم, مجمع تجاري, منازل... تقطع جميعها المسافة بين أول النافذة الى آخرها في سرعة مذهلة, فيما الطفل يظل على مقعده ثابتا. كلها متحركة الا هو, الى أن تلوح وكالة الـ"فراري" فيقفز في محله فرحا. فجأة تتوسع عيناه الناعستان وتصيران مرآة للسيارات الشهيرة, وفجأة تتحول اناشيده الخاملة الى نشوة عارمة بحظه السعيد. كان يطلب والده كل خمسة دقائق "أبغى أسكريم!", لكن الآن حظه أسعد, ومطالبه أكبر:

-"بابا بابا, أبغى فراري! لا, أبغى اثنين, واحد أحمر وواحد أزرق!"

-"طيب خلاص, ويش رايك ناخذ لك أسكريمين بدل الفراريين؟"

-"أممم, خلاص, واحد فراري, وواحد أسكريم!"

كم بسيطة هي المقارنة بين فراري وآيسكريم في عيني طفل, وكم كان سهلا اقناعه بالتخلي عن احدى السيارتين! في هذه الأثناء, يتساءل الأب بالتأكيد كيف يقنع ولده بالتخلي عن السيارة الثانية فلا يكسر خاطره برفض طلبه. لكنه بالتأكيد أيضا سعيد أن طفله لا يسأله بدلا عن ذلك الأسئلة البسيطة ذات الأجوبة المعقدة:

- "بابا, ليش القمر يصغر ويكبر؟"

- "بابا, وين تروح الشمس؟"

- "بابا, من وين جا البيبي الجديد؟"

- ... وما يتبع هذه الأسئلة من أخوات أصعب تتلوها:

- "ليش ما نطلّع بيبي ثاني من بطنها؟ أنا أبغى البيبي بنت! ما أحب لون الشعر بنّي, أبغاه أسود!"

أحيانا, أتمنى لو كان التحول الاجتماعي والثقافي, وتغير مطالب "المجتمع" من أفراده لدينا مثل تحول مطالب الطفل من سيارتي فراري الى سيارة واحدة وأسكريم! لماذا ننتظر عقودا وعقود, ونكتب ونكرر وننصح ونعود بالنصيحة الى أن يقتنع الناس بوقف التفاخر بالمظاهر والتنفس بزيف المادة, او الى أن يوقف الناس العادات الاستهلاكية المتصاعدة الكلفة للأعراس, أو الى أن يتوسع هامش الحريات الفرديّة في مجتمع جمعيّ التفكير, أو الى أن يفكر الناس بأنفسهم بدل الانسياق وراء الدعوات السياسية التي تستند الى العاطفة لتهدم لكن لا تفكر في البناء, أو الى أن ينتهي الارهاب ويخف الارهاب الفكري, أو الى أن تسود لغة المحبة بدل تنامي ظواهر العنف, أو الى أن يتكافل الناس فيما بينهم بصورة أجدى لمكافحة الفقر, او الى أن يجتمع كل المحبين لشأن ما فيكوّنون له ناديا أو مؤسسة, او الى أن تشيع العفة في وجه الحالات المخيفة من الانحلال الاخلاقي والاختطاف والاغتصاب و و ... لو أنهم يقتنعون في السرعة اللي يقتنع بها طفل بالتخلي عن سيارة فراري لصالح أسكريم!

لكن كما التغيير الشخصي, فكذلك التغيير الاجتماعي يتطلب ادراكا أكيدا و قرارا واعيا, على الأقل من ثلة تأخذ على عاتقها مسؤولية التغيير. تلك الظواهر التي أتمنى لها الزوال ما انتشرت بين ليلة وضحاها, بل كانت نتاج تغيير ثقافي بطيء ومستمر الى أن شمل رقعة واسعة من نسيجنا الاجتماعي. وبالتأكيد, فالذين نتوقع منهم التغير سيتوقعون هم أيضا من غيرهم التغير في صراع للافكار والارادات. ستبرز, مثلا, بين الشباب أسئلة صعبة يواجهون بها المجتمع... تذكرني بأسئلة الطفل: كلها تبدو بسيطة, لكن الاجابة صعبة. وما يزيد التغيير الاجتماعي صعوبة تشابك كل الظواهر مع بعضها في شكل قد يحجب الرؤية أو يضفي غموضا على الحلول.

والتغيير ليس سهلا على الاطلاق, فحتى الطفل نفسه يكتشف بعد حين فن التفاوض والمقايضة! فكلما أراد أسكريما" أو قطعة حلوى طلب أباه "أبغى فراري!" كذلك, اذا طالب المجتمع شبابه بوقف بعض الظواهر كالعنف و العلاقات بين الفتيان والفتيات دون أن يكونوا مخطوبين, لن يستجيبوا للنصح ويخففوا تمردهم على السائد الا اذا اعطوا هامشا أكبر من الحرية الفردية وحق الاختلاف في الرأي. لكن من يستطيع "منح" هذا الحق والمجتمع كله مختبئ وراء ألوان محدودة من الطيف الفكري والاجتماعي, وكل الناس تفعل "ما يفعله الناس", ويقولون "ما يقوله الناس"...

وددت لو أن التغيير الاجتماعي سريع, كتحول مطالب الطفل من سيارتي فراري الى سيارة واحدة وأسكريم! ووددت أن المال والمادة بين الناس كما هي في عيني طفل, لا فرق كبير بين فراري وآيسكريم! لكن هذا الطفل سيكبر, ويعرف أن الحياة لا تنال الا بالكدح, وان المجتمع قد ينقسم بحدة الى طبقات اقتصادية, وأن زوال الفقر حلم لدى البعض يسعون الى تحقيقه, وحقيقة لا مفر منها لدى آخرين لا يهتمون الا بحالهم.

فمن ينتج التغيير؟ تقول مارغريت ميد "لا تشك أبدا بأن مجموعة صغيرة من المواطنين الملتزمين يمكن أن تغير العالم. بالتأكيد, انه الشيء الوحيد الذي حصل على الاطلاق". لذلك, ودّي أن أكوّن مجموعة شبابية صغيرة تهتم بوطنها وتواجه مشاكله, وأسميها "واحد فراري, واحد أسكريم"!!

"ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"

صدق الله العلي العظيم