تغيرت بغداد عبر الزمن.. تغيرت المباني وسكانها, والمتاجر وملاكها, والشوارع وأسماءها, وجميع معالم الحياة فيها. لكن بسمة الحياة لا تزال تأتي على وجه النسمات.. لا تزال النسمات هي نفسها منذ بُنيت بغداد.. تسافرعلى جدائل النخيل وتعبرصفحات الفرات, تنعطف في الشوارع والأزقة, تقبل الجدران, وتعانق الإنسان. لتوها, عانقت النسمات طفلا - له ست سنوات من العمر- وأباه العائدين من صلاة الجمعة إلى المنزل.
في بيت انقطعت الكهرباء عن غرفه, فلا تكييف أو إنارة, يجلس الطفل أيمن في صالة مضاءة. أشعة الشمس تنسكب هنا, لكنها لا تدخل الصالة من بابها, ولا تحيي سكانها من نافذتها, بل عبر حفرة في السقف أنتجتها قذيفة. لم ينجُ من الحرب من أثاث المنزل شيء. أغلى ما في الصالة تلفاز كستنائي اللون قديم, صرف فيه أبو أيمن دم قلبه يوم استتب الأمن في بغداد بضعة أيام. رغم أن أبو أيمن شاهد عبر التلفاز مزيداً من دماء أخوته في الوطن تسيل في كافة أنحاء العراق, إلا أن التلفاز لا يزال أداة التسلية ومبعث البهجة الأهم لديه. جهاز الاستقبال (الأنتن) يقف شامخا صامدا, لكن نال منه التعب فمال نحو اليمين, كأنه يشير عمدا الى الصورة الكبرى على جدار الطين. هناك, يقف لاعبو كرة القدم في المنتخب العراقي رافعين شارة النصر وابتسامتهم العريضة تُغري بالأمل. اللاعب الثالث من اليمين يرفع العلم العراقي راكضا نحو رفاقه. على أرض المعلب, كتب مصمم الصورة "هذولا إحنا العراقيين..." وجعل جميع النقاط على هيئة كرات قدم.
على الأرض يجلس أيمن, يقلب نظره بين صحن الخبز والجبن و صحن البيض, وبين وجه أبيه والتلفاز. لا يخاف أيمن أنه أضاف بالبيض بقعة إلى ثوبه, فكذلك فعل أبوه, لكنه يخاف كلما صرخ أبوه في وجه التلفاز. لا يفهم الطفل كيف يشاهد أبوه المباراة مرة أخرى, وينفعل في الإعادة كما انفعل في المرة الأولى. لماذا يبقى يعنّف اللاعبين ويسب الحكم وقد فاز العراق ضد منتخب البلد الجار 2-0؟ والأهم, لماذا لا يخرج هو وأبوه من المنزل إلا نادرا؟ التساؤل والنقاش ممنوع... فيمهّد:
- بابا, لماذا طعم البيض الذي تطبخه غير طعم البيض الذي تطبخه أم فاطمة؟
- هي تطبخ كثيرا, وتضيف الطماطم والملح!
- ولماذا, بابا, لا تضيف الطماطم والملح؟
- ... الملح مضر بالصحة.
بعد صمتٍ, يعود أيمن إلى غرضه:
- بابا, لماذا لا تذهب الى مقهى الرافدين, حتى تشاهد المباراة مع أصحابك؟
- الوضع خطير.
- لكنك بالأمس ذهبت!
- أمس كانت المباراة!
- واليوم يعيدونها, فلماذا لا تذهب؟
- الإعادة لا تستحق المخاطرة.
سُدّت الأبواب, لن يذهب أبو أيمن للمقهى ويترك ابنه مع قريبتهم أم فاطمة. تقتضي الدبلوماسية من الطفل أن يصمت مجددا, لكن الصمت في نفسه هزيمة لطموحاته البريئة. يقتطع أيمن لنفسه قطعة خبز كبيرة يشتري خلال مضغها بعض الوقت. في المحاولة الأخيرة يشجع نفسه ويقول:
- بابا, أريد أن ألعب مع فاطمة وأخوها.
- لا.
الإجابات دائما قاطعة وقصيرة, لكنها وقت المباريات أقصر. لا يزيغ نظر أبو أيمن عن الشاشة حتى عندما يحتسي الشاي. للإنصاف, هو لا ينظر للشاي أبداً, حتى في أوقات رخائه. لعله لذلك لم يتساءل يوماً: لماذا شاي أهل العراق مغرق في السواد.. كأنه النفط؟ تُرى, هل ازداد سواده كلما أغرقتهم السنين بمآسيها؟
- لماذا لا أذهب؟
- اسمك أيمن.
- يعني ماذا؟
- الأسبوع الماضي ذبحوا علي لأنه شيعي. قبل ثلاث أيام غيرهم قتلوا عمر لأنه سني. وإذا سلم اسمك من الجماعتين فالأمريكان سيظنون أني أناصر الظواهري فيعاقبونني بقتلك, كما عاقبوني في أمك.
- لكنها لم تمت وهي تزور أم فاطمة. ألم تكن جالسة هنا, تحت حفرة السقف؟
- ولد, خلاص!
رجع الطفل, كعادته, إلى صمته. وتابع أبو أيمن انفعالاته.. هكذا يستنشق الأمل, عبر مباراة "فاز فيها شعب العراق على الإحباط, غلبوا فيها الانقسام, وجور الجيران, وقسوة الفقر." هكذا قال والده. "هذولا إحنا العراقيين... ننتصر على القهر."
لعل المقهى والملعب والبرلمان أماكن تتعدد فيها الأصوات وتظهر فيها بعض الديمقراطية. لكن في هذا المنزل, كما في معظم زوايا العراق, كمعظم إداراته الحكومية ودوائره العشائرية, ومعظم المنازل.. يسود الصمت ويرتفع صوت واحد. تموت كثير من تساؤلات الطفل وأحلامه, خاصة في المنزل, وإن صرخ أبوه في نهاية المباراة "عاش العراق! فاز العرق! عاش العراقيون!"